عن ديونٍ أنتهي اليوم من تسديدها بعد 25 عاماً من الانتظار

 

   عن ديونٍ أنتهي اليوم من تسديدها بعد 25 عاماً من الانتظار 


تمهيد

أكتب هذا النص بعد انقطاع أشهرٍ عن الكتابة. أكتبه، لا لشيءٍ، سوى لأرشفة أفكارٍ أوّليّة حول ربعِ قرنٍ مضى. أحبُّ أن أكتب، بين الحين والآخر، خربشات تُمَرِّك اللحظة التي كُتبَ فيها النص، لأعود بعد أعوامٍ وأضحَك– أو أبكي. ضحكتُ مثلاً، بعدما أعدتُ قراءة روايتي الأولى. قالوا حينها أنّ الأسلوب سلس، وأنّ السرد سلس، وأنا، كلّما قرأتها اليوم أضحك: كيف لي أن كنتُ ركيكاً لهذه الدرجة؟ ثم بكيتُ مثلاً، بعدما أعدتُ قراءة نصٍ من مدوّناتي، كتبتُ فيه «أكتب هذا النص وأنا أبكي– لم أكن أريد شيئاً من كلّ هذا».

عموماً، فعلُ الكتابة أرشفة، ولو أنّه يتناول موضوعاً آخر. أكتب هذا النص إذاً لأرشفة هذا اليوم بالتحديد، 28 أيّار 2021. وفيما اعتدتُ أن أكتب بصيغة المخاطب، للدردشة مع القارئ، أكتب هذه المرّة بصيغة المتكلّم، رغم قلّة ارتياحي لهذه الصيغة.

من يعرفني يعرف أنّني لست من محبّي الأعياد، حتّى أنّني لا أعلم كيفية احتساب العمر: هل عمرنا العام الذي ختمناه للتو أو العام الذي نحن مقبلون عليه؟ أعتبر عيد الميلاد يوماً كمثل أيّ يوم آخر. لا بل أحتقر يومَ عيد الميلاد. لِما تُبدون هذا الكمّ من الاهتمام بهذا الشخص أو ذاك في هذا اليوم حصراً؟ لِما تجعلون لَطافتكم لَحظويّة، لا تُظَهّر إلّا لأنّ هناك مناسبة اسمها «عيد ميلاد» استدعت تظهيرها؟ أولسنا نستأهل تلقّي و/ أو إعطاء هذه اللطافة كل يوم؟

في العام الأسبق، أو الأسبق عليه، افتتحتُ تقليداً يقضي بأرشفة عيد ميلادي عبر وسيلةٍ ما، خاصّة للغاية. مذكّرة أكتبها وأطويها وأخفيها في أسفل الدُرج، أو رسمٍ أو شيء من هذا القبيل. لكنّي في هذا العام أفعل العكس، لكونه العيد الـ25، ولكوني أُنهي في هذا اليوم تسديد ديونٍ رافقتني منذ الولادة.

 

منذ الولادة

ليش اسمي سمير؟ لأن عمّك اسمه سمير. طيب، عال. ما علاقة هذا بما ذُكر وبمناسبة اليوم؟ وما قصّة عمّي أصلاً؟
لم أحصل يوماً على إجابةٍ وافية، فقط شذرات من هنا وهناك. منذ أعوامٍ قليلة اكتشفتُ قسماً من القصّة. في خُلاصته، يستشهد سمير سكيني نتيجة قذيفةٍ سقطت على المشرفيّة لحظةَ مروره وخطيبته من هناك، وهما ذاهبان للاحتفال بتخرّجه من اختصاص التاريخ في الجامعة اللبنانية.

كان عمره حينذاك: 25 عاماً.

بدأَت القصة تُثقلني لمّا صرتُ أسمع من أصدقاءٍ لوالدي أنّني أشبه «الشهيد، الله يرحمه، وتاخد عمره». طيب، عال... ضروري آخد عمره؟ لَم أفهم يوماً كل تلك العبارات الشعبَويّة التي تُقال في الموت. ببساطة، «هو يكون فلا نكون، أو نكون فلا يكون». كل ما في الأمر أنّني بدأتُ أشعر تدريجياً، مع تتالي صدفٍ عديدة، أنّني صرتُ فعلاً «عم آخد عمره». أثقلتني القصّة أكثر يوم لفتني كتابٌ أحمر في مكتبة بيتنا، لأتفاجأ لحظةَ سحبْتُه برؤية اسمي مكتوباً على صفحته الأولى: سمير سكيني [بالأحرف اللاتينية]. طيب، عال.

بعد مدّة، كنتُ أبحث عن كتابٍ محدّد لوِليام رايخ في المكتبات، من دون جدوى، لأجده من باب الصدفة في مكتبة عمّي نفسه، مكتوبٌ على صفحته الأولى: سمير سكيني، 2-12-1977. ثم وجدتُ كتاباً آخر لِرايخ كنت أبحث عنه، وكتباً عديدة كانت في مكتبة عمّي وكنتُ أنا أبحث عنها. تبيّن أنّنا أردنا اقتناء الكتب ذاتها. وها أنا أقَتنيها، واسميَ مدوّن على صفحتها الأولى سلف، مع تاريخٍ ما. بطبيعة الحال، آخر تاريخ مسجّل يعود للعام 1978، حين كان عمره 25 عاماً.

طيب، عال...

 

تقاسيم على المكان

أكتب هذا النص من مكتبي الجديد، في منطقةٍ جديدة، خارج الشياح. الشياح مدينة البطولة، يقولون. يقولون أيضاً أن الأقحوان ينبت فيها. ايه احّا. متى صار لون الأقحوان أخضر؟ والدي قال ذات مرّة أنّ خروجنا من الشياح سيكون أشبه برمي سمكة خارج المياه. طيب، عال، وإن كانت المياه آثمة – بصرف النظر عمّا كانته منذ 25 عاماً أو أكثر؟ لا بأس إذاً ببعض المغامرة.

علّقتُ مرّة على باب غرفتي يافطةً كتبتُ عليها: قاطعوا المساكن المضرّة بالصحّة النفسية. شاء القدر أن يكون مسكني المضر بالصحة النفسية مرتبط باسمي الذي هو، لأسبابٍ لم أذكرها هنا، تكثيف لتاريخ عائلتنا منذ جدّي أبو سمير وصولاً إلى آخر العنقود: كاتب هذا النَص.

للمفارقة، يوم كتابة هذا النص هو هو اليوم الأول لي خارج الشياح. هذه هديّتي لنفسي في عيدي الـ25، بعدما حصل كل الذي حصل، وبعدما صارت قواعد الزَمَكان معلوكة.

 

جردة ربع القرن

كان التوتّر يزداد باطّراد قبل بلوغ هذا اليوم، كنت أفكّر: يومَ أبلغ الـ25، أبلغ تلقائياً عمر سمير يومَ استشهد. يعني اليوم يا سمير، أصبح أنا أكبر منك.

لهذا السبب رافقني على الدوام شعورٌ لا أعرف اسمه الدقيق، لكنّه يقضي بأن أحقّق دوماً أموراً وأموراً وأموراً أكثر ممّا حقّقته أصلاً. كنت أسابق الوقت. كنت أقول لنفسي، إن رمى «القدر» نردَه ومتُّ كما سمير الأوّل عند الـ 25، هل أكون راضٍ بما حقّقته؟ أستطيع أن أُجيب هذه الليلة، بكامل مِشمِشيَ وأعصابيَ الباردة: نعم.

بعيداً عن التبجّج، أنهيتُ دراستي في الهندسة المعمارية، مع مشروع تخرّج عزيز على قلبي: متحف صور اللاوعي. أنهيتُ كذلك ماستر الفلسفة، وأتابع المرحلة الثانية منه في دراسةٍ حول الاغتراب والسعادة في السياسة بحسب الفرويدو-ماركسيين، ولبنان نموذجاً. المخطّط في الدكتوراه أن أربط ذلك بتيّارات فنية تأثّرت بهذا المذهب – السُرّيالية مثالاً. على سيرة الرسم، لوحاتي بخير ووجدتُ أسلوبيَ الخاص، إنّما أعاتب نفسي على إهمالي هذا الموضوع عدّة سنوات، واعداً نفسي أن أعود للرسم قريباً. وجدتُ عملاً ممتعاً أيضاً، لن يُحزِن ماركس بعد أن يقوم بحسبة تملّك وسائل الانتاج/الاغتراب. وجدتُ سَكَناً هادئاً، وابتعدتُ عن الضجيج الذي كان يسبّب معظم توتّراتي. وجدتُ خطّاً فكرياً أنسجم معه، قابلاً للتطوّر. أصدرتُ كتابَين، الأوّل لذيذ، والثاني يجعلني متردّد وأحمل تجاهه نقداً كبيراً، لكنّه أيضاً لذيذ. نشرتُ حتّى اليوم عدداً لا بأس به من المقالات التي تعبّر عنّي... طيب، عال؟ عال. لو كان سميراً هنا، لكان ليفرح بما حقَّقهُ سمير يومَ أتمّ الـ25.

من هذه الزاوية، أعتقد أنّني اليوم سدّدتُ دَيناً أُسقِطَ عليّ أواخر السبعينيات، وانتظرت 25 عاماً لأنتهي منه. والآن الآن، بات بإمكاني أن أبدأ حياتي الخاصّة «على نظافة»: وما زلنا نملك كل الحياة لنعيشها.

 

اعتذار/ لا اعتذار

بِقدر ما يبدو  المذكور وردياً، بقدر ما هو العكس. «الإنجازات» التي حقّقتها في الـ25، أُحاجج أنّها قد تكون كلّفت أكثر من قيمتها بكثير. ربّما. على كلٍّ، القاعدة الأكيدة هي التالية: كل شي ع حساب شي. الأكيد أنّني نجحتُ هنا، مقابل فشلي هناك. فشلي الذي تُرجمَ مثلاً بتقصيري بحقّ كُثر. أشعر بالذنب تجاه تجاهلي أشخاصٍ اهتمّوا بي أو بادروا بلفتةٍ لطيفة ولم أردّ بالمثل، من الأهل وصولاً إلى أصدقاء. قد تكون هذه فرصة مناسبة لأعتذر ممّن يعنيهم الحديث. وبغض النظر عن نظرتي الخاصة للموضوع، تبَيّن أنّني أزعجتُ بتصرّفاتي –عن غير قصد- عدداً من الأشخاص؛ من هؤلاء أعتذر إن كان الاعتذار يفيد بشيء.

على مقلبٍ آخر، سآخذ بنصح درويش: لا تعتذر عمّا فعلت. أكتفي بالقول أنّ «الانطوائية» بحاجة إلى إعادة تعريف في بيئتنا. أو بحاجة حتّى إلى تعريف. ذلك أن الغالبية الساحقة لا تأخذ بالاعتبار الطابع الانطوائي أو المنفتح للطرف الآخر. معظم صدّي للناس أو تهرّبي منهم لم يكن فعلاً «تهرّباً» أو «تنييم»، بل ببساطة التصاق بأبسط قواعد الانطوائية. أتى تجنّبي لمعظم الأشخاص والنقاشات بعدما شعرتُ أنّ حدود انطوائيّتي مهدّدة بالخرق. طبعاً، وسائل التواصل الاجتماعي تهوّن ذلك، والواتساب أيضاً.

بالمناسبة، الواتساب أحقر ما خلُصت إليه التكنولوجيا.

مزعج كيف يستبيح الناس مساحتنا الشخصية. مزعج كيف يتم الخلط بين أوقات فراغنا وبين توفّرنا للإجابة. مزعجة المطالبة الدائمة بالإجابة، وكأنّ من يُراسلك يشتري ضمناً حقّه الحصري بأن يحصل على إجابة منك! أو كأنّه يتصوّر بأنّ لك الطاقة الدائمة للإجابة: عادي، قرأتُ الرسالة، ولم أُجب. مزعج، كيف أنّ عدم امتلاكك هذا الحد الأدنى من الطاقة للإجابة على الرسائل، يُعتَبَر وقاحة. وكيف أنّ مسافتك الشخصية عن العالم الخارجي، تُعتَبر تكبّر. وأن ميلك الدائم إلى الانطواء، يُعتَبر غرابة أطوار. والمتوقَّع بعد ذلك كله، أن تعتذر عمّا فعلت؟

ايه احّا.

 

«وإيه يفيد الزمن مع الّي عاش بالخيال؟»

قد يكون الجزء الأوسع ممّا ورد في النَص وهم، أو مجرّد تخيّلات أعيش فيها. عناصر النَص دقيقة بالفعل، لكنّ الربط سخيف. سخيف، لأنّنا نحتاج أحياناً إلى خيوطٍ لنلقي عليها عبء انهياراتنا. نتحجّج بسيناريوهات ليست موجودة إلّا في أذهاننا، لنتهرّب من واقعٍ نُكابر عليه. الآن أصبحت كل همومي مربوطة باسمي. خود بقا. قمّة التجريد والاختزال.

أعود وأقرأ النص وأبتسم، ذلك أنّني رسمتُ لوحةً طريفة. على كلٍّ، أفضّل بقائي على موقفي المعتاد من الأعياد. لن يتغيّر شيء غداً، بعد الـ25. وستبقى الأمور تسير على ما هي عليه، وستبقى التوتّرات توتّرات، ولحظات اللطافة الضيّقة ستبقى، ومهربنا من هذا العالم سيبقى، أكان عالماً بديلاً في ذهننا أو تكراراً للسطر نفسه 12 مرّة في مقطوعةٍ لفيليب غلاس.

وإن كنت قد سدّدتُ اليومَ ديناً، فإنّي سأصحو غداً على دينٍ جديد، وفي رأسي أسطوانة قديمة تدور وتدور وتدور وتقول: «إيه يفيد الزمن، مع الي عاش في الخيال»... أغنية سمير المفضّلة.

Comments

Popular posts from this blog

وليكن الإحباط قدراً! / سمير سكيني